فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإذا أريد كون الكلام على وجه يعم قيل: {قل} لهم في جواب من سأل {أحل} وبناه للمفعول طبق سؤالهم ولأن المقصود لا كونه من معين {لكم الطيبات} أي الكاملة الطيب، فلا خبث فيها بنوع تحريم ولا تقذر، من ذوي الطباع السليمة مما لم يرد به نص ولا صح فيه قياس، وهذا يشمل كل ما ذبح وهو مأذون في ذبحه مما كانوا يحرمونه على أنفسهم من السائبة وما معها، وكل ما أذن فيه من غير ذبح كحيوان البحر وما أذن فيه من غير المطاعم {وما} وهو على حذف مضاف للعلم به، فالمعنى: وصيد ما {علمتم من الجوارح} أي التي من شأنها أن تجرح، أو تكون سببًا للجرح وهو الذبح، أو من الجرح بمعنى الكسب {ويعلم ما جرحتم بالنهار} [الأنعام: 60] وهو كواسب الصيد من السباع والطير، فأحل إمساكها للقنية وصيدها وشرط فيه التعليم، قال الشافعي: والكلب لا يصير معلمًا إلا عند أمور: إذا أشلى استشلى، وإذا زجر انزجر وحبس ولم يأكل، وإذا دعي أجاب، وإذا أراده لم يفر منه، فإذا فعل ذلك مرات فهو معلم، ولم يذكر حدًا لأن الاسم إذا لم يكن معلومًا من نص ولا إجماع وجب الرجوع فيه إلى العرف، وبنى الحال من الكلاب وإن كان المراد العموم، لأن التأديب فيها أكثر فقال: {مكلبين} أي حال كونكم متكلفين تعليم هذه الكواسب ومبالغين في ذلك، قالوا: وفائدة هذه الحال أن يكون المعلم نحريرًا في علمه موصوفًا به، وأكد ذلك بحال أخرى أو استئناف فقال: {تعلمونهن} وحوشًا كنَّ أو طيورًا {مما علمكم الله} أي المحيط بصفات الكمال من علم التكليب، فأفاد ذلك أن على كل طالب لشيء أن لا يأخذه إلا من أجلّ العلماء به وأشدهم دراية له وأغوصهم على لطائفه وحقائقه وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل، فكم من آخذ من غير متقن قد ضيع أيامه، وعض عند لقاء النجارين إبهامه! ثم سبب عن ذلك قوله: {فكلوا}.
ولما كان في الصيد من العظم وغيره ما لا يؤكل قال: {مما أمسكن} أي الجوارح مستقرًا إمساكها {عليكم} أي على تعليمكم، لا على جبلتها وطبيتعها دون تعليمكم، وذلك هو الذي لم يأكلن منه وإن مات قبل إدراك ذكاته، وأما ما أمسك الجارح على أي مستقرًا على جبلته وطبعه، ناظرًا فيه إلى نفاسه نفسه فلا يحل {واذكروا اسم الله} أي الذي له كل شيء ولا كفوء له {عليه} أي على ما أمسكن عند إرسال الجارح أو عند الذبح إن أدركت ذكاته، لتخالفوا سنة الجاهلية وتأخذوه من مالكه، وقد صارت نسبة هذه الجملة. كما ترى.
إلى {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] نسبة المستثنى إلى المستثنى منه، وإلى مفهوم غير محلي الصيد وانتم حرم نسبة الشرح.
ولما كان تعليم الجوارح أمرًا خارجًا عن العادة في نفسه وإن كان قد كثر، حتى صار مألوفًا، وكان الصيد بها أمرًا تُعجب شرعته وتهز النفوس كيفيتُه، ختم الآية بما هو خارج عن عادة البشر وطرقها من سرعة الحساب ولطف العلم بمقدار الاستحقاق من الثواب والعقاب، فقال محذرًا من إهمال شيء مما رسمه: {واتقوا} أي حاسبوا أنفسكم واتقوا {الله} أي عالم الغيب والشهادة القادر على كل شيء فيما أدركتم ذكاته وما لم تدركوها، وما أمسكه الجارح عليكم وما أمسكه على نفسه- إلى غير ذلك من أمور الصيد التي لا يقف عندها إلا من غلبت عليه مهابة الله واستشعر خوفه، فاتقاه فيما أحل وما حرم، ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الجامع لمجامع العظمة {سريع الحساب} أي عالم بكل شيء وقادر عليه في كل وقت، فهو قادر على كل جزاء يريده، لا يشغله أحد عن أحد ولا شأن عن شأن. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قال صاحب الكشاف في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده {مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} كأنه قيل: يقولون لك ماذا أحل لهم، وإنما لم يقل ماذا أحل لنا حكاية لما قالوه.
واعلم أن هذا ضعيف لأنه لو كان هذا حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا ماذا أحل لهم، ومعلوم أن هذا باطل لأنهم لا يقولون ذلك، بل إنما يقولون ماذا أحل لنا، بل الصحيح أن هذا ليس حكاية لكلامهم بعبارتهم، بل هو بيان لكيفية الواقعة. اهـ.
قال الفخر:
إن العرب في الجاهلية كانوا يحرمون أشياء من الطيبات كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
فهم كانوا يحكمون بكونها طيبة إلا أنهم كانوا يحرمون أكلها لشبهات ضعيفة، فذكر تعالى أن كل ما يستطاب فهو حلال، وأكد هذه الآية بقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ والطيبات مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] وبقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث} [الأعراف: 157].
واعلم أن الطيب في اللغة هو المستلذ، والحلال المأذون فيه يسمى أيضًا طيبًا تشبيهًا بما هو مستلذ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة، فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات هاهنا المحللات، وإلا لصار تقدير الآية: قل أحل لكم المحلللات، ومعلوم أن هذا ركيك، فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهى، فصار التقدير: أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى.
ثم اعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة، فإن أهل البادية يستطيبون أكل جميع الحيوانات، ويتأكد دلالة هذه الآيات بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا في الارض جَمِيعًا} [البقرة: 29] فهذا يقتضي التمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض، إلا أنه أدخل التخصيص في ذلك العموم فقال: {وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث} (الأعراف؛ 157) ونص في هذه الآيات الكثيرة على إباحة المستلذات والطيبات فصار هذا أصلًا كبيرًا، وقانون مرجوعًا إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة، منها أن لحم الخيل مباح عند الشافعي رحمه الله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله ليس بمباح.
حجة الشافعي رحمه الله أنه مستلذ مستطاب، والعلم به ضروري، وإذا كان كذلك وجب أن يكون حلالًا لقوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} ومنها أن متروك التسمية عند الشافعي رحمه الله مباح، وعند أبي حنيفة حرام، حجة الشافعي رحمه الله أنه مستطاب مستلذ، فوجب أن يحل لقوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} ويدل أيضًا على صحة قول الشافعي رحمه الله في هاتين المسألتين قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} استثنى المذكاة بما بيّن اللبة والصدر، وقد حصل ذلك في الخيل، فوجب أن تكون مذكاة، فوجب أن تحل لعموم قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وأما في متروك التسمية فالذكاة أيضًا حاصلة لأنا أجمعنا على أنه لو ترك التسمية ناسيًا فهي مذكاة، وذلك يدل على أن ذكر الله تعالى باللسان ليس حزءًا من ماهية الذكاة، وإذا كان كذلك كان الإتيان بالذكاة بدون الإتيان بالتسمية ممكنًا، فنحن مثلكم فيما إذا وجد ذلك، وإذا حصلت الذكاة دخل تحت قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} ومنها أن لحم الحمر الأهلية مباح عند مالك وعند بشر المريسي وقد احتجا بهايتن الآيتين، إلا أنا نعتمد في تحريم ذلك على ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} شروع في تفصيل المحللات التي ذكر بعضها على وجه الإجمال إثر بيان المحرمات، أخرج ابن جرير. والبيهقي في سننه. وغيرهما عن أبي رافع قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب فقال عليه الصلاة والسلام: قد أذنا لك قال: أجل ولكنالآندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني صلى الله عليه وسلم أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت، وجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى يسألونك الآية.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن السائل عاصم بن عدي.
وسعد بن خيثمة. وعويم بن ساعدة، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السائل عدي بن حاتم.
وزيد بن المهلهل الطائيان، وقد ضمن السؤال معنى القول، ولذا حكيت به الجملة كما تحكى بالقول، وليس معلقًا لأنه وإن لم يكن من أفعال القلوب لكنه سبب للعلم وطريق له، فيعلق كما يعلق خلافًا لأبي حيان، فاندفع ما قيل: إن السؤال ليس مما يعمل في الجمل ويتعدى بحرف الجر، فيقال: سئل عن كذا، وادعى بعضهم لذلك أنه بتقدير مضاف أي جواب ماذا، والأول مختار الأكثرين، وضمير الغيبة دون ضمير المتكلم الواقع في كلامهم لما أن يسألون بلفظ الغيبة كما تقول: أقسم زيد ليضربن، ولو قلت: لأضربن جاز، والمسؤول نظرًا للكلام السابق ما أحل من المطاعم والمآكل، وقيل: إن المسؤول ما أحل من الصيد والذبائح {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه، وإلى ذلك ذهب البلخي، وعن أبي علي الجبائي.
وأبي مسلم هي ما أذن سبحانه في أكله من المأكولات والذبائح والصيحد، وقيل: ما لم يرد بتحريمه نص أو قياس، ويدخل في ذلك الإجماع إذ لابد من استناده لنص وإن لم نقف عليه، والطيب على هذين القولين بمعنى الحلال، وعلى الأول بمعنى المستلذ، وقد جاء بالمعنيين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات}.
إن كان الناس قد سألوا عمّا أحِلّ لهم من المطعومات بعد أن سمعوا ما حرّم عليهم في الآية السابقة، أو قبل أن يسمعوا ذلك، وأريد جوابهم عن سؤالهم الآن، فالمضارع مستعمل للدلالة على تجدّد السؤال، أي تكرّره أو توقّع تكرّره.
وعليه فوجه فصل جملة {يسألونك} أنّها استئناف بيانيّ ناشئ عن جملة {حرّمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] وقوله: {فمن اضطرّ في مخمصة} [المائدة: 3]؛ أو هي استئناف ابتدائي: للانتقال من بيان المحرّمات إلى بيان الحلال بالذات، وإن كان السؤال لم يقع، وإنَّما قصد به توقّع السؤال، كأنَّه قيل: إن سَألوكَ، فالإتيان بالمضارع بمعنى الاستقبال لتوقّع أن يسأل الناس عن ضبط الحلال، لأنَّه ممّا تتوجَّه النفوس إلى الإحاطة به، وإلى معرفة ما عسى أن يكون قد حرّم عليهم من غير ما عُدّد لهم في الآيات السابقة، وقد بيّنّا في مواضع ممّا تقدّم، منها قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلّة} في سورة البقرة (189): أنّ صيغة {يسألونك} في القرآن تحتمل الأمرين.
فعلى الوجه الأوّل يكون الجواب قد حصل ببيان المحرّمات أوّلًا ثم ببيان الحلال، أو ببيان الحلال فقط، إذا كان بيان المحرّمات سابقًا على السؤال، وعلى الوجه الثاني قد قصد الاهتمام ببيان الحلال بوجه جامع، فعنون الاهتمام به بإيراده بصيغة السؤال المناسب لتقدّم ذكره.
و{الطيّبات} صفة لمحذوف معلوم من السياق، أي الأطعمة الطيّبة، وهي الموصوفة بالطيِّب، أي التي طابت.
وأصل معنى الطيب معنى الطّهارة والزكاء والوقع الحسن في النفس عاجلًا وآجلًا، فالشيء المستلذّ إذا كان وخِمًا لا يسمّى طيِّبًا: لأنّه يعقب ألمًا أو ضُرًّا، ولذلك كان طيّب كلّ شيء أن يكون من أحسن نوعه وأنفعه.
وقد أطلق الطيِّب على المباح شرعًا؛ لأنّ إباحة الشرع الشيء علامة على حسنه وسلامته من المضرّة، قال تعالى: {كلوا ممَّا في الأرض حلالًا طيّبًا} [البقرة: 168].
والمراد بالطيّبات في قوله: {أحل لكم الطيبات} معناها اللغوي ليصحّ إسناد فعل {أحِلّ} إليها.
وقد تقدّم شيء من معنى الطيّب عند قوله تعالى: {يأيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالًا طيّبًا} في سورة البقرة (168)، ويجيء شيء منه عند قوله تعالى: {والبلد الطيّب} في سورة الأعراف (58).
{والطيّبات} وصف للأطعمة قُرِن به حكم التحليل، فدلّ على أنّ الطِّيبَ علّة التحليل، وأفاد أنّ الحرام ضدّه وهو الخبائث، كما قال في آية الأعراف، في ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم {ويحلّ لهم الطيّباتتِ ويحرّم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157].
وقد اختلفت أقوال السلف في ضبط وصف الطيّبات؛ فعن مالك: الطيّبات الحلال، ويتعيّن أن يكون مراده أنّ الحلّ هو المؤذن بتحقّق وصف الطيِّب في الطعام المباح، لأنّ الوصف الطيّب قد يخفى، فأخذ مالك بعلامته وهي الحلّ كيلا يكون قوله: {الطيّبات} حوالة على ما لا ينضبط بين الناس مثل الاستلذاذ، فيتَعيّن، إذن، أن يكون قوله: {أحل لكم الطيبات} غيْر مراد منه ضبط الحلال، بل أريد به الامتنان والإعلام بأنّ ما أحلّه الله لهم فهو طيّب، إبطالًا لِما اعتقدوه في زمن الشرك: من تحريم ما لا موجب لتحريمه، وتحليل ما هو خبيث.